وحقَّكَ
وحقَّكَ استَحقَّ لكَ السُّجودُ ومنِكَ الجودُ يَعبُدُكَ الوُجودُ
وحقَّكَ ما لمُلكِكَ منْ شَريكٍ لكَ التَّوْحيدُ وَحدَكَ يا وَدودُ
وحقَّكَ أنتَ غَفَّارُ الخطايا وعَفوُكَ ما لَهُ أبَداً حُدودُ
شَهدنا أنّكَ الصَّمَدُ المُزَكَّىَ بما شَهِدَتْ ملائِكُكَ الشُّهودُ
عِبادُكَ نحنُ فأنظرْ يا إلهي برحمتكَ العظيمةِ إذْ تَجودُ
بحمدكَ تلهجُ الأصواتُ شُكراً وقد غرقَتْ منَ الدَّمع الخدودُ
وتُعطي السائلينَ بغيرِ حَدًّ ولوْ كَثُرَتْ ببابكمُ الوفودُ
إلهي أنتَ وحدَكَ لا شَريكٌ إليكَ إذا دَهىَ خطَرٌ نَعودُ
كتابُكَ لي دليلُ أقتَديهِ إليهِ الورْدُ إن وَجَبَ الوُرودُ
ومُلكُكَ دائمٌ لا يعتريهِ زوالٌ حُقَّ للمُلْكِ الخُلودُ
وأنتَ اللهُ مالكَ منْ شّبيهٍ ومنْ وافاكَ وافاهُ السُّعودُ
ابتهال وحقك.. صدق وثبات وتأثّر كبير في صوغ المعنى القرآني
محمد عبد السميع (أبوظبي)
حين يحلف المرء بربّه، فإنّ صدقاً يجبرنا على المتابعة والإحساس بنفس المُبتّهل إلى الله، وقد بدأ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله» ابتهاله (وحقّك)، بتأكيد هذا الصدق والثبات الذي يكاد يتخلل كلّ ابتهالاته، مع ملاحظة القرب اللفظي بين (الجود) و(الوجود)، مع اختلاف المعنى بينهما وهو ضربٌ من ضروب الجناس، فالوجود- الخلقُ كلّه- يعبد صاحب الجود، وهو- جلّ وعلا- الذي ليس له من شريك في الملك، وله التوحيد وحده وهو الودود، وهو غفّار الخطايا، صاحب العفو الذي لا ينتهي وليس له من حدود، وشهدنا جميعاً بألوهيّة الصمد المُزكّى بشهادة ملائكته عليهم السلام. إنّ (الناء) الدالة على الفاعل وهي إنابة لطيفة من سموّه عن بني البشر المؤمنين، لتؤكّد الإحساس الجمعي لصاحب السموّ في أنّه يجهر بكلّ هذا الخلق، الناس، أمام ربّه، فيتكلم عنهم، وعنهم ينوب.
إنّ المتتبع لهذه الأبيات يجد فيها قراءةً سابقةً لسموّه في القرآن الكريم، بدليل التأثّر الكبير الذي نلمسه في صوغ المعنى القرآني في أبيات هذا الابتهال ومثله من الابتهالات. ونحن هنا أمام توطئة أو تمهيد أو مقدّمة لما يستجدّ، وتلك عادة الشعراء في أنّهم يصدّرون قصائدهم بمثل هذه الأبيات التي تضعنا بصورة ما يليها، فبعد هذا الاستهلال الطيّب والقسم العظيم بالله لله، أي القسم بالله لغاية تعظيم الإله والاستجارة به، نجد التلطّف في الدعاء: (عبادك نحن، فانظر يا إلهي/ برحمتك العظيمة إذ تجودُ)، ولنلاحظ قوّة الوصف في قول سموّه (وقد غرقت من الدّمع الخدودُ)، وهو عجزُ بيتٍ موفّق، وفيه صورة عذبة لطيفة جاء فاعلها (الخدود) مؤخراً ومنسجماً مع القافية من دون تكلّف أو إثقال، وهكذا نسير مع سموّه فرحين بصفات ممدوحه عزّ وجل الذي تلهج له الأصوات شكراً وتعظيماً، فهو الذي يعطي السائلين بغير حدٍّ، حتى ولو كثرت ببابه الوفود. وللحقيقة فإنّ لسموه وقفات ذكيّة وتوليفات غاية في الإمتاع: (ولو كثرت ببابكم الوفودُ)، وهو الكرم الذي ليس بعده من كرم، وتلك رحمة الله الواسعة التي لا تضيق على العباد وطالبي كرمه وإحسانه. إنّها عبارة مؤثّرة وصورة جميلة منسجمة ومستمدّة من الحياة التي نعيشها، إذ قد يمتلئ المكان ببني البشر في دنياهم فتكون الشكوى ويكون القلق أمام الكثرة وندرة الكرم، لكنّ ربّاً لا يغلّ يده الكريمة وتتسع رحمته للجميع يكون المثال الذي لا يقارن به مثال. إنّه الله الواحد الذي لا شريك له، يعود إليه الناس إذا دهتهم الخطوب والأخطار، وقد أنزل سبحانه كتاباً يقتدي به بنو البشر، فهو وردٌ، وكأننا أمام حالة من العطش ينتهي فيها الظامئ لأن يصبح ريّاناً، وكأننا أيضاً أمام حالة صوفية في معنى من المعاني، وهنا فإنّنا أمام مُلكٌ لا يزول ولا تطرأ عليه أسباب الزوال، وصاحب ملكٍ ما له من شبيه، بل إنّ من وافاه وافاه السعودُ والحظّ والرخاء.
موسيقيّاً جاء هذا الابتهال على وزن بحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعولن)، وهو بحرٌ سريعٌ في تفعيلاته، ويدلّ على حالة من استعجال الشاعر التوبة، والبدء بالشكوى والتذلل بين يدي الخالق، وهي بطبيعة الحال انعكاس لحالة نفسيّة قلقة جاءت أبياتها بهذه العجلة عن قصد لتكون مرآةً صادقة صافيةً للإسراع في التوبة وإعلان الندم والتعبير بين يدي الخالق الممدوح عما يشعر به الواقف بباب هذا الممدوح العظيم.
جاءت قافية الأبيات جميلة الوقع وذات حسٍّ غير ثقيل بدليل تواتر الواو والدال المضمومة.
لك الحمدُ يا ربي
لكَ الحمدُ يا ربي لكَ العزُّ والمجدُ **** علىَ كلَّ شيءٍ في الوجودِ لكَ الحمدُ
من الضّدُ للرحمن ربي وخالقي **** إذا حانَ ميعادُ الحسابِ من الضّدُ
وما المَدُّ إلاَّ منهُ جوداً ورحمةً **** فمن جودهِ الجودُ المضاعفُ والمَدُّ
لهُ العهدُ منَّي أنْ أوَحَّدَ ذكرهُ **** بتوحيدهِ ما عشتُ قدْ ثَبَتَ العهدُ
لكَ الحمدُ ربيَّ عنْ كتابٍ ومِلَّةٍ **** بها يهتدي إنْ زاغَ عنْ نَهجهِ العَبْدُ
لكَ الحمدُ والشُكْرُ المضاعفُ كُلَّما **** بدا شارقٌ يا منْ لهُ الحَلُّ والعَقْدُ
عليكَ رجائي واتَّكالي ومرجعي **** أبوءُ بذنبي حينما الأمرُ يشتدُ
فلا تُبعدنَّي عنكَ يا سامعَ الدُّعا **** إليكَ مفَرَّي منكَ نَحوَكَ أرتَدُّ
فكنْ لي مجيراً أنتَ حَسبي وليس لي **** سوىَ بابكَ المفتوح إنْ جَهِدَ الجُهدُ
لك الحمد يا ربي.. منسجم في موسيقاه عذب في قراءته غني في مضمونه
أبوظبي (الاتحاد)
على البحر الطويل، بما في الطويل من عذوبة واسترسال، وراحة في التواصل، والشكوى وعتاب الذات، يؤكّد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله» حقيقةً تحت العنوان العريض «لك الحمد يا ربي»، وقد جاءت هذه الحقيقة قفلةً موفّقةً لابتهالٍ منسجم في موسيقاه، عذب في قراءته، غني في مضمونه، إذ يفرّ المرء من قضاء الله إلى قضائه عزّ وجلّ، أو كما نقول نفرّ من الله إلى الله، وتلك خاصيّة مهمّة جداً؛ فكما نخاف الله نحبّه، وذلك هو أعظم درجات الإيمان، الذي يجد المرء فيه ربّه في السراء والضراء إلى جانبه.
يقول شطر البيت (فلا تبعدنّي عنك يا سامع الدعا/ إليك مفرّي، منك نحوك أرتدُّ)، وفي هذا التبيان كان حقّاً على الله الرحمن الرحيم الذي كتب على نفسه الرحمة أن يكون مجيراً لمن أعسرته الحيلة وأجهده الجهد وضاق به الحال ولم يجد غير باب ربه يلتجئ إليه، فهو حسبُه، وهو ما يتناص مع الآية (ومن يتوكّل على الله فهو حسبه)، ومع قوله عزّ وجل (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً...).
هذه الحقيقة الإيمانيّة نقرأها أيضاً في مستهلّ الابتهال، كما قرأناها في ختامه، إذ يقول سموّه (لك الحمد يا ربي لك العزّ والمجد/ على كلّ شيءٍ في الوجود لك الحمدُ)، وانطلاقاً من هذا اليقين ينتقل سموّه كعادته في ابتهالات متسلسلة تناسب النفس المتعبة المثقلة بالهموم، ليسأل متعجّباً، وفي الحقيقة فإنّ السؤال هنا ليس للمعرفة، بل هو لغرض الاستنكار والتعجّب، وهو أمر بلاغي، في قول سموّه (من الضدُّ للرحمن ربي وخالقي، إذا حان ميعاد الحسابِ، من الضدُّ؟!)، ولعلّنا نلحظ في تكرار (من الضدُّ) تأكيداً لإيمان سموّه الذي هو إيمان جمعي ينوب عنا سموّه في هذا الابتهال. كما نلاحظ انسجام لفظ الرحمن مع مقتضى الحال، إذ الحالة هي حالة حساب، ولا ينفع فيها غير رحمة الله وسعته في غفرانه الذنوب يوم لا ينفع ظلٌّ غير ظلّه.
وهكذا، يسترسل سموّه في تعداد صفات خالقه، الذي هو أصلّ المدّ في جوده ورحمته، بل إنّ كلّ جودٍ مستنبطٌ من جوده وكرمه، وقد جاء سموّه بلفظة (المضاعف) للدلالة على قوّة الصفة، وهي صفة جديرة بأن يتخذها صاحب الابتهال مُتكئاً في وقوفه بين يدي الرحمن الرحيم الذي يغفر الذنوب.
نحن إذن أمام شاعرٍ يجدد العهد في إيمانه، بل إنّه عهدٌ على الملأ: (له العهد منّي أن أوحّد ذكرهُ/ بتوحيده ما عشتُ، قد ثبت العهدُ): تأكيد لقوة العقيدة في الله سبحانه، وتوثيق حبل العلاقة مع الله والتوكل عليه واليقين بقدرته سبحانه والتسليم بالقضاء والقدر واليقين في أثر الدعاء والمناجاة للخالق سبحانه؛ إذ ما بعد الثبات انزياح أو ارتداد أو نكوص. ويستمرّ صاحب السموّ في شكرانه ربّه الذي بعث الكتاب وجعل الملّة وجعل الهداية ووفق لها السبيل، فهو شكرٌ متّصل لا ينقطع منذ أن يسطع النور في الصباح حتى يسطع نورٌ في الصباح الذي يليه، ونلاحظ هنا بلاغة سموّه في أنّه لم يذكر انتهاء اليوم أو مغيب الشمس، وما ذلك إلا لأنّ المعنى يُفهم من السياق، أما (الحلّ والعقدُ)، فهي الصفة التي لا توازيها صفة أهل الحلّ والعقد في الأرض، وتعني أنّ بيد الله مقاليد كلّ أمر، فهو الإله الذي يبوء له سموّه بذنبه حينما يشتدّ عليه الخطب، فهو رجاء يتواصل من نفس مؤمنة تشتاق إلى الرحمة والتواصل، ولكنّها لا تأمن مع كلّ هذا الإيمان، وتلك صفة المؤمنين الذين يظلّ الواحد منهم يخشى ربّه ويخاف أن يكون قد قصّر بين يديه في أمرٍ ما.
موسيقيّاً، يعدُّ البحر الطويل من البحور التي تستثمر لغايات الرثاء والبكائيّات والاعتذاريات، وقد كثر استخدام هذا البحر في الشعر العربي، وكانت عروضه وافيةً لكلّ هذا السيل الطامي من البكاء أو الأحزان: (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن/ فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن)، وقد أتى موافقاً جداً لغايات التوبة والاستغفار وإعلان الضعف أمام الله. كما جاءت الدال المضمومة موفّقةً في ألفاظها التي لا تكاد تجد فيها حشواً أو تكراراً أو قافيةً لأجل التخلّص من البيت؛ فالألفاظ طابقت المعنى وعبّرت التعبير السليم من غير ثقلٍ أو نفور، بدليل أن بعضها جاء فعلاً (يشتدُّ)، و(أرتدُّ) وهو ما ينسجم مع معنى البيت، إذ لو شاء سموه لجعل كلّ قوافيه أسماءً، لكنّه ترك ذلك من غير تكلّفٍ أو اصطناع، فجاءت تسعة أبيات صافيةً تدخل القلوب، وتلك عادة صاحب السموّ في إسباغ هذه الصفات على ممدوحه العظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق